الميلاد زمن الاسترداد
في أعظم لحظة عرفها تاريخ الإنسانية، تجلّت محبة الله العميقة بأسلوب يفوق الوصف، حين قدّم أغلى ما لديه ليعيد الإنسان إلى حضنه من جديد. لم يكن هذا الحدث مجرد واقعة تاريخية عابرة، بل إعلاناً صريحاً يكشف القيمة الحقيقية للإنسان ومكانته الفريدة في قلب الله. وانطلاقاً من عظمة هذه القيمة، أرسل الله ابنه الوحيد ليفتح أمام الجميع باب العطاء الإلهي، داعياً الإنسان إلى علاقة بنوّة صادقة معه، تُمكّن الإنسان من الاقتراب بثقة من الله، واختبار الحرية والكرامة والبنوة التي يمنحها الحب الإلهي. في هذا المقال، نستكشف معاً كيف يعلن الله عن القيمة العظيمة للإنسان، ولماذا أنت غالٍ جداً في نظره، وكيف يمكن لهذا الفعل السماوي أن يُحدث تحولاً جذرياً في حياة الإنسان، لنعيش تجربة روحية عميقة، تنير القلب وتزرع أملاً لا ينتهي.
الله يرسل الغالي
غلا 4: 4 - 6
4 وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ،5 لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. 6 ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ».
في ظل عجز الإنسان الكامل عن استعادة علاقته بالله بقوته الذاتية، ومع تعاظم حاجته العميقة إلى الخلاص، بادر الله بمبادرته الإلهية العظمى، فأرسل إلى هذا العالم أغلى ما لديه: ابنه الوحيد. لم يكن هذا الإرسال الإلهي حدثاً عابراً، بل إعلاناً عن حقيقة جوهرية لا يمكن تجاوزها، مفادها أن استرداد الإنسان لم يكن أمراً بسيطاً أو سهلاً، بل تطلّب مخلّصاً عظيماً، قدوساً وباراً، بلا خطيئة، قادراً وحده أن يعيد الإنسان إلى حضن الله. ومن هنا أعلن الله بنفسه عن ابنه باعتباره هذا المخلّص، مؤكّداً قيمته الفريدة ومكانته الإلهية ودوره الخلاصي المحوري، إذ قال: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متى 3: 17). وقد بدأت هذه الرحلة منذ الميلاد، لتتجلّى في الصليب حيث حمل خطايا البشرية جمعاء. هذا الإعلان الإلهي لا يترك الإنسان في موقع المتفرّج، بل يضعه أمام مسؤولية روحية عميقة: هل نُقدّر هذا العطاء السماوي الفريد بما يليق بعظمته، أم نتعامل معه كأمرٍ عادي؟
الله دفع الغالي
وهنا تتجلّى حقيقة لا يمكن تجاوزها سريعاً: خطة الله لم تكن مجرّد ترتيب زمني أو لحظة محسوبة في سياق التاريخ، بل قراراً واعياً بدفع أثمن ما لديه. لم يكن الثمن أمراً عابراً، بل الابن الوحيد، الذي قُدِّم فداءً عن الإنسان الغالي على قلب الله… أنا وأنت. وعند التأمل في هذا الفعل الإلهي، ندرك أننا لسنا أمام فكرة نظرية، بل أمام محبة دفعت ثمناً حقيقياً، كاشفة عن قيمة الإنسان في نظر الله، قيمة لا تُقاس بمقياس بشري، بل تجلّت بوضوح على الصليب. هذا الإدراك يضع الإنسان أمام مسؤولية روحية عميقة: أن يعي عظمة الثمن الذي دُفع لأجله، ثمناً لم يُقاس بالذهب أو الفضة، بل بدم يسوع المسيح الكريم، كما يعلن الكتاب المقدس بوضوح: «بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ» (1 بطرس 1: 19). ومن هذه اللحظة المفصلية، ومن هذا العمل الخلاصي العظيم، يقودنا الإيمان بما صنعه الله لاستردادنا إلى مرحلة جديدة ومكانة روحية مختلفة، حيث تتردّد حقيقة جوهرية لا يمكن تجاهلها: أنت إنسان غالٍ جداً في عينيه.
جعلك ان تصبح غالي
يقول الله في كلمته غل 4: 6 «أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: يَا أَبَا الآبُ». ومن خلال ميلاد يسوع المسيح، أعلن الله بداية مرحلة جديدة في علاقة الإنسان به، مرحلة لم تعد تقوم على المسافة أو الخوف، بل على البنوة والاقتراب. فبميلاد الابن العزيز، منحنا الله روحه في داخلنا، روحاً يمكّننا من النطق بكلمات البنوة، لنصرخ بثقة واطمئنان: إنه أبونا الحنون. هذا العمل الإلهي العظيم يكشف عمق محبة الله، إذ لم يرسل ابنه ليستردّنا كعبيد، بل ليعيدنا إليه كأبناء، ويهبنا حياة جديدة مملوءة بالحرية والكرامة. وكما تعلن الكلمة المقدسة: 1 يو 4: 9 «بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ»، مؤكِّدة أن المحبة الحقيقية لا تنبع منا أولاً، بل من الله نفسه، الذي أحبنا وبادر فأرسل ابنه كفارة لخطايانا، لكي يمنحنا الخلاص ويفتح لنا طريق الاقتراب إليه كأبٍ حقيقي.
الخاتمة
في نهاية هذه الرحلة الروحية، يتضح لنا بجلاء أن الله لم يتركنا ضائعين أو بعيدين عنه، بل أعلن عن محبته بطريقة تفوق كل وصف، فقدم أغلى ما يملك لأجلنا. بميلاد ابنه الوحيد، اكتشفنا قيمة الإنسان الحقيقية ومكانته الفريدة في قلب الله، ورأينا كيف يمكن للحب الإلهي أن يغيّر حياتنا بالكامل. هذه الحقيقة العميقة تدعونا اليوم للتأمل في علاقتنا مع الله، لنتقبّل هديته الثمينة ونعيش بنوة حقيقية، مملوءة بالحرية، الكرامة، والأمل. لا تتجاهل هذا الحب السماوي الفريد - فأنت غالٍ جداً عند الله، وعطاءه لك يدعوك لتجربة حياة جديدة مليئة بالسكينة والقوة.